توماس هوبس
تأثر الكثيرون بكتاب توماس هوبس الذي أصدره سنة 1561 بعنوان "الحكم الاستبدادي" (اسم لوحش بحري منقرض يرمز إلى الشر)، وانتقد كثيرون ما ورد في كتابه من "مبادئ فاسدة" إلا أن الأجيال التي تلت أقرت أن المفكر توماس هوبس هو من أعظم الفلاسفة الإنجليز.
ولد "هوبس" سنة 1588 في بلدة "مالميسبوري" بمقاطعة "ولتشاير"، وهي بلدة قديمة مازالت تقوم فيها حتى اليوم بعض المباني التي عاصرها توماس هوبس الذي ظهر نبوغه في الآداب والرياضيات، وترجم مسرحية "ميديا" لمؤلفها "أوريبيدس" من الشعر الإغريقي إلى اللاتينية ثم انتقل إلى أكسفورد والتحق بكلية "ماغدالين" ومنها نال درجته الجامعية. ثم عمل مدرساً في بيوت النبلاء، ومن حين إلى آخر كان يصحب تلاميذه في رحلات خارج البلاد. وفي سنة 1642 قرر فجأة أن يغادر البلاد ، في تلك الأيام كان حكم الملك شارل الأول يواجه هجوماً عنيفاً من البرلمان الإنجليزي، وأدى هذا النزاع إلى قيام الحرب الأهلية الكبيرة بين سنتي 1642 و 1647، وقد أثار ذلك النزاع قلق هوبس، وقد عرف عنه أنه كان من مؤيدي أساليب الحكم التي يتبعها الملك.. وعندما اعتقل زعماء البرلمان أحد كبار أنصار الملك، وهو أسقف كنيسة سانت ديفيد، قرر هوبس أن يترك انجلترا ويرحل إلى باريس. وفي فرنسا أضاف هوبس إلى معارفه الواسعة دراسة الكيمياء وعلم التشريح ولكن عمله الحقيقي الذي أكسبه الشهرة هو كتابه "الحكم الإستبدادي" الذي كان له تأثيره على الفكر الإنساني عامة ورجال السياسة خاصة .. وفي أواخر ذلك القرن كتب "جون أوبري" الذي أرخ حياة هوبس: "كان يتمشى كثيراً وهو يفكر ويتأمل، وفي مقبض عصاه ريشة محبرة، وفي جيبه مفكرة فما أن تنبثق فكرة في رأسه حتى يبادر من فوره إلى تدوينها في مفكرته، وإلا تبددت هذه الفكرة".
فرغ هوبس من كتابه سنة 1651، بعد إعدام الملك شارل الأول، وتم طبعه في لندن وقدم هوبس نسخة منه مجلدة تجليداً خاصاً إلى شارل الثاني الذي كان يومذاك في منفاه بباريس ثم عاد هو نفسه إلى إنجلترا بعد ذلك، وسمح له بالإقامة في لندن قبل أن يستعيد شارل الثاني عرشه.
وفي سنة 1660 استرد الملك العرش، وكان هوبس قد أصبح طاعناً في السن، ولكنه بقي يتدفق حيوية .. وكان الملك الجديد يأنس إلى صحبته، ويلقبه تحبباً باسم "الدب"، فإذا رآه قادماً قال: "هوذا الدب قد أقبل". ومات هوبس عام 1779 في شاتسويرت" في مقاطعة "دير بيشاير" في بيت "ابر دبفونشاير" أول تلميذ من تلاميذه.
إن "الحكم الإستبدادي" لهوبس كتاب تثير قراءته الضيق في بعض مواضعه، إذ ينظر فيه إلى الطبيعة البشرية نظرة تحقير واستهانة، كما يعكس الكتاب تجربة هوبس الشخصية وعهد العنف الذي عاصره .. والواقع أن هوبس كان في قرارة نفسه يكره ويمقت النزاع والخصومات ويحاول دائماً أن يتحاشاها. وكان هذا هو سر هجرته إلى فرنسا عام 1642.. وكان من رأيه أنه خير للمرء أن يعيش في ظل حكم طاغية مستبد، على أن يعيش في بلد يتعرض فيه القانون والنظام للزوال .. وكانت هذه هي النظرية الرئيسية التي قام عليها كتابه "الحكم الاستبدادي" ، فهو يقول أنه إذا ترك الناس إلى نزعاتهم، فانهن سيعيشون في حالة دائمة من الحروب، فيقاتل كل انسان غيره .. وحياة المرء هي "حياة انعزالية قذرة قصيرة وذات طابع وحشي"، ولما لم يكن في الناس من يبغي أن يعيش على هذه الحال - كما يقول هوبس - فإن عليهم أن يتفقوا على النزول عن الحرية التي تؤدي إلى كل هذا النزاع والخصومات. وذلك في مقابل السلام والاستقرار اللذين يمكن توفرهما حكومة قوية. ولا جدوى من نزول الناس عن نصف حرياتهم، فإنهم إن فعلوا ذلك عادوا يطالبون باستردادها إذا ما هددت الأخطار مصالحهم، وارتد المجتمع إلى الحال السيئة التي كان عليها في البداية. فينبغي عليهم إذن أن ينزلوا عن كل حرياتهم، وعليهم أن يمنحوا الحكومة الحق في تنفيذ مشيئتها بالقوة، أي بحد السيف .. ويقول هوبس في هذا المعنى : "إن العهود والمواثيق بغير السيف ليست إلا مجرد كلمات".
قصارى القول أن هوبس يرى أن الحياة في ظل حكم استبدادي أفضل من حالة الفوضى، حيث لا حكم ولا قانون. ويبدو أنه لم يكن يعتقد بإمكان وجود حالة وسطى بين الوضعين .. والملاحظ أنه عاصر حكومة لم تتوافر لها قوة كافية لتنفيذ الأحكام والقوانين، فتداعت وانهارت.
وقد عاش هوبس خلال الفترة التي أعدم فيها ملك انجلترا سنة 1649، وعاصر الأيام العصيبة التي أعقبت تنفيذ حكم الاعدام، حين بدا أن الجيش هو نظام الحكم الوحيد الفعال .. ونشير إلى أن نمو المعارضة وازدياد سطوتها حملت هوبس هلى الفرار إلى فرنسا، فازداد اعتقاده بأن الخوف هو الشعور المتحكم في الناس، وهذه الفكرة حملت هوبس على أن يدعو إلى حرمان الناس من حريتهم.