ثالثا : نظرية النظم الموسيقي
ويمثل هذه النظرية في العصر الحديث الأديب الناقد مصطفى صادق الرافعي[15] ، وقد انطلق الرافعي في نظريته هذه من الحروف وأصواتها، ثم من الحركة الصرفية واللغوية للألفاظ القرءانية المشتملة على تلك الحروف.
يقول الرافعي (وحسبك بهذا اعتبارا في إعجاز النظم الموسيقي في القرءان ، وأنه مما لا يتعلق به أحد ، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه ـ أي القرءان ـ لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعض مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشي والتكرار ..)[16]
(وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرءان إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى ، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب ..
ولهذا كان النص القرءاني قابلا للتلاوة على طريقة الترتيل ، وعلى طريقة الألحان والأوزان ، ولم تكن قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم قابلة لذلك..)[17]
رابعا:نظرية التصوير الفني في القرءان الكريم
وتنسب هذه النظرية إلى الأديب الناقد والمفكر الإسلامي سيد قطب (ت1966م) فكان يرى أن إعجاز القرءان وإن تجلى في نظمه، فهو لا يقتصر عليه بل هناك جانب آخر أكثر تجليا لأهل البلاغة والحس الجمالي ، وهو التصوير الفني .
يقول سيد قطب :(التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرءان، فهو يعبر بالصورة المحسوسة والحية عن المعنى الذهني المجرد، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة والحركة، فإذا المعنى المجرد قائما للعيان حاضرا أمام الحواس، فإذا أضاف إليها الحوار استوت واكتملت عناصر الجمال والإعجاب فيها، وانتقل قارئ القرءان من المعنى المجرد إلى الصورة المشهودة ، فيزداد تأثرا واستجابة ، وهذا واضح في سور القرءان ، في أمثاله وقصصه وأخباره بكثرة ..)[18].
وقد أكد سيد قطب هذا الاتجاه في تفسيره "في ظلال القرءان" ولما اكتملت النظرية في ذهنه أفردها بتأليف خاص سماه "التصوير الفني في القرءان".
رأينا في الموضوع
إن المتأمل في موضوع الإعجاز القرءاني بكل مظاهره المتنوعة والمتزايدة يوما بعد يوم يلحظ أن إعجاز القرءان أكبر وأوسع بكثير من أن يحصر في جانب واحد من هذه الجوانب التي حاولوا أن يعللوه بها، فالقرءان معجز بنظمه مثلما هو معجز بإيقاعه وموسيقاه ومثلما هو معجز بطريقته المميزة والساحرة في التصوير والتعبير بالأساليب الحسية والمشهودة بطريقة لا قبل لفصحاء العرب بها، ومن هنا نحسب أن كلا من هؤلاء قد تمسك بالجانب الذي انبهر به، بحكم ما تخصص فيه من علوم وفنون التي مكنته من إدراك ذلك على وجه أكمل وأوضح من غيره، مصداقا لقوله تعالى:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.."[19] والحق أن القرءان معجز بهذه الوجوه جميعا، وأن هذه الوجوه السابقة التي بنوا عليها إعجاز القرءان مرجعها واحد هو الجانب البياني والبلاغي وإن اختلفت طريقة التسمية والعرض، ولكنها تصب في مصب واحد، وأغفلوا وجوها نذكرها فيما يأتي:
الوجه الأول:طريقة تأليفه
بحيث أن القرءان الكريم لم ينزل جملة واحدة ، بل نزل مفرقا على أكثر من عشرين سنة ، حسب الوقائع والدواعي المتجددة ، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما نزل عليه شيء من القرءان قال لأصحابه ضعوه في سورة كذا ومكان كذا ، وكانت سور كثيرة ظلت مفتوحة عددا من السنين لتضاف إليها آيات أخرى في بدايتها ووسطها وآخرها، كسورة البقرة التي ظلت مفتوحة تسع سنوات إلى جانب سورة آل عمران والنساء والنور وغيرها .
وهكذا ظلت سور القرءان تكتمل في بنائها دفعة واحدة ، والرسول لا يدري ما سيحدث من الوقائع والدواعي ، فضلا عما سينزل فيها من القرءان ، ومضى الأمر كله على هذه الحال، حتى إذا اكتمل نزول القرءان كان غاية في الائتلاف والانسجام ، بحيث لا يستطيع القارئ بمحض اجتهاده أن يعرف السور التي نزلت مفرقة أو تلك التي نزلت جملة واحدة.
وها نحن اليوم أمام مجموع الأحاديث النبوية على الرغم من فصاحتها وارتباطها بمصدر الوحي، لو أردنا أن نربط ونؤلف بينها لنكون مثل بعض سور القرءان ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن الله تعالى أبى أن يكتب الإعجاز والكمال إلا لكتابه الكريم.
الوجه الثاني:علومه ومعارفه
فبالإضافة إلى روعة أسلوبه وتناسقه وتجانسه في عرض مواضيعه ، فهو بحر زاخر من العلوم والمعارف التي لم يحوها كتاب فوق الأرض قط، فقد جمع بين دفتيه ما يصلح به أمر الدنيا والآخرة بخطاب يفهمه البسطاء وينبهر أمامه العلماء والفلاسفة والحكماء ، وبينما نراه يصلح ما أفسده أهل الأديان السابقة ، نراه يقده للإنسانية عقيدة راشدة ترفع همة العبد ، وعبادة قويمة تطهر نفس الإنسان وتزكيها ، وأخلاقا عالية تؤهل الخلق لحياة كريمة ، وأحكاما وقوانين تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد ، فهو يمثل منهجا قويما يلائم الفطرة ، ويشبع حاجات العقل والقلب معا ، ويوفق بين مطالب الروح والجسد ، ومصالح الدنيا والآخرة ، كل ذلك في قصد واعتدال ، وبراهين واضحة وبليغة.
وأكثر من هذا أنه حوى علم الماضي والحاضر والمستقبل ، فتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل ، فصحح أخطاء الأفاكين والمفترين على التاريخ من اليهود والنصارى والمشركين ـ وهو أحد أغراض القرءان الأساسية[20] ـ لقوله تعالى:"إن هذا القرءان يقص على بني إسرائيل أكثر الذين هم فيه يختلفون"[21] وتحدث عن المستقبل من حيث الإشارة إلى سنن الله الماضية في الكون والتي تحكم المجتمعات من حيث النجاح والفشل والسعادة والشقاء والقوة والضعف وغيرها .
الوجه الثالث: وفاؤه بحاجات البشر
ومعنى هذا أن القرءان الكريم قد جاء بهدايات كاملة تفي بحاجات البشر المتجددة في كل عصر ومصر، وفاء لا تظفر به في أي نظرية أو تشريع آخر ، ويتجلى في المقاصد النبيلة التي يرمي إليها القرءان في هدايته وهي :
أولا:إصلاح العقائد عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد تحت عنوان "الإيمان بالله واليوم الآخر".
ثانيا:إصلاح العبادات عن طريق إرشاد الخلق إلى ما يزكي النفوس ويغذي الأرواح وينمي الإرادة والرقابة على الذات.
ثالثا:إصلاح الأخلاق بإرشاد الخلق إلى فضائلها والتنفير من رذائلها في قصد واعتدال .
رابعا:إصلاح الاجتماع بالدعوة إلى توحيد الصفوف ومحو العصبيات وإزالة الفوارق بإشعارهم بأنهم من جنس واحد ، وأبناء عائلة واحدة ..
خامسا:إصلاح السياسة العالمية والعلاقات الدولية عن طريق تقرير العدل والمساواة بين الناس والوفاء بالعهود والرحمة في المعاملة والشعور بالمسِئولية .
سادسا:الإصلاح المالي بالدعوة إلى الاقتصاد وحماية المال من التلف والضياع ، والإرشاد إلى الوجوه الصحيحة للإنفاق والحقوق المتعلقة به.
سابعا:إصلاح النظام الاجتماعي بتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة وبيان الوظيفة التكاملية بين الطرفين بالتفصيل وبعيدا عن كل ألوان الصراع والمغالبة
ثامنا:الإصلاح الحربي عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة لخير الإنسانية في مبدئها وغايتها ، ووجوب التزام الرحمة فيها ، والوفاء بمعاهداتها ، وإيثار السلم عليها في إطار الحق والعدل ، والاكتفاء بالجزية عند النصر والظفر فيها .
تاسعا:محاربة الاسترقاق بطرق شتى وبأشكال كلها حكمة[22] ، حتى تخلصت البشرية منه وبدون أدنى زغزغة لبنية المجتمع ، وذلك بتقليل مصادره ومنابعه وتكثير طرق التخلص منه بالترغيب في تحرير الرقاب والكفارات المختلفة والتدبير والمكاتبة وغيرها ، فاختفى بالتدريج وفي هدوء وصمت .
عاشرا:تحرير العقول والأفكار ومنع الإكراه والاضطهاد في الدين[23].
ولا يزال الضمير العالمي ينادي يوما بعد يوم بما دعا إليه الإسلام من تحريم للخمر وأكل الخنزير ومنع الفواحش وحضر الربا وإباحة الطلاق ورفع الحضر عن تعدد الزوجات ، وغيرها من الحلول التي دعا إليها القرءان، وقرر أنها الحلول الوحيدة التي لا بديل عنها.
الوجه الرابع : العلوم الكونية
وإلى جانب ما دعا إليه القرءان الكريم من توحيد وعبادة وتشريع حكيم، فقد تضمن القرءان الكريم إشارات دقيقة في العلوم الكونية أبهرت الدارسين والراسخين في العلم حتى ظنوا أن الكشف عن هذه العلوم من مقاصد القرءان الكريم ، والحق أن مقاصد القرءان أكبر وأوسع من ذلك ، ولذا نجد منهج القرءان الكريم في عرضه للعلوم الكونية قام على الأسس الآتية :
1 ـ أن القرءان الكريم لم يجعل تلك العلوم الكونية موضوعه الأساسي ، لأن هذه العلوم خاضعة لقانون النشوء والارتقاء والنسبية ، وفي تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة من الناس ، ثم إن عظمة القرءان لا تتوقف على أن ننتحل له وظيفة جديدة ، بل إن وظيفته في هداية العالم هي أسمى وظيفة .
2 ـ أن القرءان الكريم حين عرض لهذه الكونيات كان يرمي إلى إشعارنا بأنها مربوبة مقهورة لإرادته، مسخرة لخلقه ، فليست متروكة عبثا ، ولا هي في صراع مع خلقه كما تريد أن توهمنا بعض الفلسفات والديانات الوثنية.
3 ـ أن القرءان الكريم دعا إلى التعرف إلى هذه العلوم في جملة ما دعا إليه من النظر والاعتبار.
4 ـ أن القرءان الكريم حين عرض لبعض الظاهر الكونية تحدث عنها حديث من أحاط بكل شيء علما ، والذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر، مما أدهش الدارسين وأوقعهم في الإسراف في الحكم ، واعتبار هذه المعارف الكونية مرادة لذاتها .
5 ـ أن الأسلوب الذي اختاره القرءان الكريم في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين روعة البيان وإبراز مظهر القدرة الإلهية وموضع العبرة الإيمانية[24] .
إلا أن هذا لا يمنع من القول بأن في القرءان الكريم إشارات علمية دقيقة وعميقة تنفي أن يكون هذا القرءان عصارة فكر رجل أمي ونشأ في بيئة أمية وصفها القرءان الكريم بأنها كانت في ضلال مبين .
الوجه الخامس:أنباء الغيب
ومعنى ذلك أن القرءان الكريم قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد بها ، ولا سبيل لمثله أن يعلمها ، مما يدل دلالة قاطعة على أن هذا القرءان لا يمكن أن يكون صادرا عن محمد أو غيره من البشر.
فمن غيب الماضي تفصيل قصص الأمم البائدة والرسل السابقين تفصيلا يلم بأجواء الأحداث وملابساتها ، فمن ذلك قوله تعالى بعد عرض قصة مريم عليها السلام مع قومها:"ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"[25]
وأما غيب الحاضر فكثير أيضا ونقصد به ما كان يطلع الله عليه نبيه عن طريق الوحي مما يجري حوله من هداية وإضلال ونفاق وخيانة وموت وحياة، وكذلك عالم الغيب من ملائكة وجن وحياة برزخية وغيرها.
وأما غيب المستقبل فليس بالقليل، فقد أخبر القرءان عن موت أناس على الكفر مثل أبي لهب[26] ، وقال عن آخر "سنسمه على الخرطوم"[27] فمات بضربة على أنفه في غزوة بدر كما أخبر القرءان ، وتحدت القرءان الكريم عن نهاية الحرب بين الفرس والروم، وعن فتح مكة، وعاقبة غدر اليهود بالمدينة ، فتحقق كل ما أنبأ به القرءان الكريم ، وإن الدارس ليندهش وهو يلحظ أن هذه النبوءات على كثرتها وتنوعها لم تتخلف منها واحدة ، ولو تخلف منها شيء لنقله الأعداء بالخبر المستفيض والمتواتر ، ولكن تمت كلمات ربك صدقا وعدلا ل مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
الوجه السادس : آيات العتاب
وذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سجل عليه القرءان الكريم بعض الأخطاء في الرأي والاجتهاد ، ووجه إليه بسببها عتابا نشعر بلطفه تارة وبعنفه تارة أخرى ، ولا شك أن العقل المنصف يقضي بعد هذه الألوان من العتاب بأن هذا القرءان لا يمكن أن يكون نابعا من ذات محمد ، وإلا لما سجل على نفسه هذه الأخطاء وهذا العتاب ، يتلوها الناس أبد الدهر ، ويتقربون إلى الله تعلى بتلاوتها إلى يوم القيامة .
فمن ذلك مثلا قوله تعالى:"وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ..وكفى بالله حسيبا"[28].
قالت عائشة رضي الله عنها ( لو كتم محمد شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم قوله تعالى:"وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"[29]
ومنها قوله تعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما"[30]
كما ورد في كثير من الآيات عتاب لأصحابه رضوان الله عليهم ، في سورة الأنفال والتوبة والنور والصف وغيرها من السور ، علما بأن في هذه الآيات جميعا إشارة إلى إحدى وسائل التربية في المنهج القرءاني لما في أسلوب العتاب من تأثير عميق في ردع النفس البشرية، وهو بعد ذلك كله مظهر من مظاهر إعجاز هذا الكتاب الخالد.
الوجه السابع: ما نزل بعد طول انتظار
ومعنى ذلك أن أحداثا كثيرة ومهمة كانت تقع وتحتاج إلى إيضاح حكم الشرع فيها ، أو كشف غموض يكتنفها ، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد مشقة كبيرة في هذا الانتظار ، ولكنه لا يملك غير ذلك.
ومن ذلك حادثة تحويل القبلة، والمخلفون في غزوة تبوك، وحادثة الإفك، وقصة أصحاب الكهف وغيرها ، فكان يتوقف في الأمر، ويسأل فلا يجيب بشيء حتى ينزل الوحي بعد طول انتظار.