يفيض التاريخ الاسلامي العظيم بأحداث غيرت وجه الدنيا, وبتتبع خطوط انجازات المسلمين يتأكد لنا أن أغلب الأحداث العظمى والانتصارات الحاسمة كانت في شهر رمضان الكريم, ومن بينها (فتح
بلغراد) في رمضان927هـ.وكانت البداية أن السلطان العثماني سليمان القانوني - ذا المكانة المعلومة في تاريخ الدولة العثمانية, - أرسل الى ملك المجر لويز الثاني سفيرًا يخيره بين الاسلام أو
الجزية أو الحرب, فما كان من ملك المجر الا أن أمر باعدام السفير, مما أثار غضب السلطان, فأمر بتجهيز الجيوش وجمع كل ما تتطلبه من الذخائر والمؤن, وسار هو بنفسه في مقدمة الجيش
قاصدا فتح العاصمة بلغراد وكان له ما أراد, بينما مات الملك غما وكمدا.
وقد برزت أهمية الموقع الذي تقوم عليه بلغراد في القرن العاشر الهجري في ذِروة الحرب بين الدولة العثمانية والمجر التي كانت قد أنعشت من جديد الروح الصليبية في أوروبا, وتطورت الى حرب
بين الاسلام والمسيحية, ولكن على الأرض الأوروبية هذه المرة, على نحو ما أوضح الدكتور محمد الارناؤوط في كتابه (تاريخ بلغراد الاسلامية), فخلال هذا القرن كانت بلغراد القلعة الحدودية
للمجر, وقد تحولت الى "حصن للمسيحية", وأصبحت رمزاً يعني الكثير لكل أوروبا في صموده أو سقوطه.فهي مفتاح أوروبا الوسطي, وكانت قلعتها الشهيرة من أحصن القلاع في أوروبا, وأشدها
منعة, وكانت تبعد عن الأراضي العثمانية حوالي 20 كيلومترا فقط, وكان المجريون يكنون الكثير من العداء للعثمانيين, ويسعون لطردهم من أوروبا بأسرها ومن منطقة البلقان على وجه الخصوص,
ولعل هذا ما جعل العثمانيين يوجهون جهدهم لفتح بلغراد والقضاء على خطرها, وازالتها كعقبة تعترض طريقهم نحو الانسياب الى قلب أوروبا وفتح فيينا وبودابست.
حاول العثمانيون فتح بلغراد 3 مرات, ولم يتمكنوا من ذلك الا في المرة الرابعة بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على محاولتهم الأولي, ويذكر التاريخ أن المحاولة الأولى لفتح بلغراد جرت في
عهد السلطان العثماني مراد الثاني سنة 845 هـ عندما أعلن البابا "أوجينيوس الرابع" حملة صليبية ضد الأتراك لطردهم من أوروبا, وتوالت محاولات العثمانيين الى أن اعتلي السلطان القانوني
الحكم, ولم تمض عليه الا 8 أشهر حتى قام بحملته الأولى والتي أراد أن تكون وجهتها بلغراد, وأن تكون حملة تبث الرهبة في قلوب الأوروبيين المعادين للدولة العثمانية.
وبني القانوني موقفه من بلغراد وتصميمه على فتحها على اعتبارات سياسية وستراتيجية عدة, فالمملكة المجرية هي الخصم الأكبر للعثمانيين في أوروبا الشرقية وتمثل سدا منيعا دون انتشار
الاسلام في أوروبا الشرقية.ومن ناحية ثانية استطاع "القانوني" بحنكته السياسية الكبيرة أن يحيد القوي الأوروبية عن التدخل لانقاذ بلغراد, فالبندقية كانت تناقش في ذلك الوقت عقد معاهدة
تجارية مع العثمانيين, ولم يكن من مصلحتها أن تدخل في حرب ضد العثمانيين تأييدا للمجريين. أما الفاتيكان وملك بولندا فلم يجدا مبررا للتدخل لمساندة بلغراد, كما أن أوروبا كانت على وشك حالة
من الانقسام الديني بسبب دعوة "مارتن لوثر" الدينية الجديدة التي تزامنت مع بدايات تحرك السلطان القانوني نحو بلغراد. والفرنسيون نصحوا الملك المجري "لويس" بابرام هدنة مع القانوني
كسبا للوقت, أما الألمان فكانوا مشغولين عن مساندة بلغراد ببعض العوامل الداخلية, ومن ثم تلكأت أوروبا عن نصرة بلغراد.
ويوضح الدكتور الارناؤوط في كتابه (الاسلام في يوغوسلافيا من بلغراد الي سرييفو) الترتيبات التي اتخذها سليمان استعدادا لفتح بلغراد طوال شتاء (926 هـ- 1520م), فقد جمع قوات النخبة
العثمانية المسماة "السباهية" من عدد من الولايات, وزاد في عدد القوات النظامية, وأصر القانوني على أن يكون خروجه بالجيش يوما مشهودا يشهده سفراء الدول الأجنبية في الدولة العثمانية,
وكان يهدف من وراء ذلك الى القيام بحرب نفسية ضد المجر, وحرب نفسية أخرى ضد الأوروبيين حتى لا يفكروا في تقديم يد العون لبلغراد, , ومن ثم فان ما قام به كان استعراضا مدروسا للقوة
والتخويف.
واصل الجيش السلطاني زحفه حتى عسكر تحت أسوار قلعة بلغراد الحصينة, ثم أخذت المدافع تقصف القلعة بدون انقطاع حسب الخطة الموضوعة, وتوالت الهجمات طيلة 3 أسابيع, لكنها كانت
بدون جدوي, وفي هذه الأثناء قدم أحد الأوروبيين نصيحة للقانوني بأن ينسف أكبر برج في التحصينات في القلعة لأن انهياره سوف يؤدي الى انهيار معنويات المدافعين عن القلعة. وبالفعل تم
نسف البرج وانهارت معنويات المجريين والصرب المدافعين عن القلعة برغم ما أبدوه من بسالة في القتال, ثم ضرب القانوني ضربته الثانية للتفريق بين الصرب والمجريين, حيث وعد الصرب بالحفاظ
على حياتهم اذا تركوا المجريين في القتال, واستطاعت هذه الخطة أن تبقي المجريين وحدهم في الميدان, فقتل أغلبهم وفتحت القلعة في 4 من رمضان المبارك 927هـ أما بلغراد المدينة فتم
فتحها في 25 من الشهر نفسه, وسرعان ما انتشرت أخبار الانتصار في العالم, وأرسل الأوروبيون وفودا للتهنئة بالفتح.
وقد تسبب فتح بلغراد في وضع مأساوي لمملكة المجر, فقد توفي ملكها لويس بعد سماع نبأ سقوط بلغراد حصن المسيحية في أوروبا الشرقية, ولم تلبث هذه المملكة أن انهارت على يد
القانوني عقب معركة" موهاكس" الشهيرة, وتدفق العثمانيون على أوروبا كالسيل الجارف الذي لا تزيده الأمطار الا قوة وعنفوانا.لذلك قال المؤرخ الألماني البارز هالمر:ان هذا السلطان كان أشد
خطرا على الأوروبيين من صلاح الدين الأيوبي. وقد اعتبر يوم وفاته عيدا لدي نصارى أوروبا قاطبة.
ازدهرت بلغراد وتحولت خلال الحكم العثماني الطويل من قلعة الى واحدة من أكبر المدن في أوروبا الشرقية, ونشأت خارج القلعة مدينة جديدة ازدهرت كنموذج للمدينة الاسلامية, وشكلت
نموذجاً حضاريًا متقدمًا بالنسبة للوسط الأوروبي, ومن الثابت تاريخيًا أن بلغراد ظلت مدينة اسلامية لقرون عدة من حيث العمران وحركة العلم ورفع راية الجهاد.. تحولت بعد سقوطها بسنوات الى
محاربة المسلمين, الذين حوَلوها الى احدى أعظم مدن أوروبا حضارة.. وقت أنْ كانت أوروبا تعيش في ظلمات الجهل والتخلف, وقد عادت اليوم مدينة مسيحية في ظل الحرب الشرسة التي تعرض
لها الاسلام والمسلمون في هذه الأرض.